لم يكد خبر الاعلان عن قبول الطلب المقدم من محامي الجاسوس الاسرائيلي التاريخي جوناثان بولارد (في 20 تشرين الثاني المقبل) من اجل اطلاق سراح مشروط، حتى صاح رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو بأعلى صوته: انا وراء هذا القرار.
منذ عقود من الزمن، تحاول اسرائيل الحصول من الولايات المتحدة الاميركية على عفو خاص لاطلاق سراح هذا الجاسوس، دون ان تلقى آذاناً صاغية. سبب هذا الرفض كان معنوياً، اذ على الرغم من التحالف القوي بين اميركا واسرائيل، لم يستسغ الاميركيون "زرع" الاسرائيليين احد عملائهم في منصب بالغ الحساسية في الهيكلية الاميركية، لذلك كان الحكم على تجسس بولارد لصالح اسرائيل، السجن مدى الحياة(1).
وتحول بولارد الى ما يشبه "البطل" بالنسبة الى الاسرائيليين، وبات في باطن تفكيرهم ان من يخرجه من السجن سيدخل قلوبهم والتاريخ، وهذا ما يعرفه نتانياهو تماماً. ولم تنجح الادارة الاميركية الحالية في استخدام ورقة بولارد بنجاح لاقناع الاسرائيليين في خضم تركيز اوباما في ولايته الاولى، على تحقيق تقدم جدي في المسار الفلسطيني-الاسرائيلي، رغم التلويح بها اكثر من مرة.
ولكن في الوقت الحالي، لم ينتظر رئيس الوزراء الاسرائيلي طويلاً حتى يتصل بزوجة بولارد ويبلغها الخبر، ويخرج الى الاعلام ليبدأ قطف ثمار هذه الخطوة ويعزو لنفسه هذا "الانجاز" من خلال قوله انه قام باتصالات مضنية مع مختلف الادارات الاميركية المتعاقبة من اجل اطلاق سراح بولارد، مع الاشارة الى انه زاره في السجن عام 2002 ولم يكن رئيساً للوزراء.
وفي الواقع، يمكن القول ان ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما، غضت الطرف عن هذا الموضوع، لـ"تسليف" نتانياهو رصيداً شعبياً عارماً يمكنه استغلاله في ظل تراجع شعبيته حالياً. فقد كان يمكن للحكومة الاميركية ان تعترض، كالعادة، على طلب اطلاق السراح، وكان يمكن بالتالي لبولارد ان يقبع في السجن 15 عاماً اضافياً، ولو ان طلب اطلاق السراح المشروط يمكن خلال هذه السنوات ان يقدم كل اسبوعين.
اما "الخطوة الذكية" التي لعبها الرئيس الاميركي، فتكمن في القطبة المخفية التي تفيد ان الحكم على بولارد يتضمن بنداً بالنظر باطلاق السراح المشروط بعد 30 عاماً، وبالتالي يمكن للرئيس الاميركي التأكيد انه لم يقم بأي معاملة خاصة من اجل اطلاق سراح بولارد، وان كل ما فعله هو تطبيق القانون وما ينص عليه الحكم الصادر بحق بولارد. ولكن "الخدمة" التي قدمها اوباما، تمثلت في عدم اعتراض الحكومة، كما ذكرنا، على طلب اطلاق السراح، وهو امر بالغ الاهمية بالنسبة الى لجنة الموافقة على طلب اطلاق السراح.
ويمكن ايضاً القول ان اوباما لم ينس تحدي نتانياهو له في مسألة الاتفاق النووي الايراني، وكلامه امام الكونغرس الاميركي دون موافقة الرئيس الاميركي. من هنا، قد يكون ايضاً الاعلان عن اطلاق السراح المشروط لبولارد سيفاً ذي حدّين لرئيس الوزراء الاسرائيلي، لانه في حال تراجعت حدة نتانياهو في التحذير والوقوف في وجه الاتفاق النووي الايراني، فسيفسر ذلك على ان اوباما ضغط على رئيس الوزراء الاسرائيلي من خلال قضية بولارد، فيما لا يمكن للثاني ان يستمر اصلاً بمعارضة الاتفاق بالزخم نفسه لانه اصبح واقعاً ملموساً كما انه يحظى بمباركة دول اوروبا والغرب والامم المتحدة.
سينعم نتانياهو بقطف ثمار اطلاق سراح الجاسوس بولارد على الصعيد الاسرائيلي الداخلي، ولو ان الثاني لن يتمكن من مغادرة الولايات المتحدة بشكل فوري بعد خروجه من السجن، ولكنه سيعود الى اسرائيل قريباً دون شك، وسيقف نتانياهو الى جانبه لاضفاء صورة "المحرر"، وربما قد يضمه الى حزب الليكود بصورة سريعة ليدخل العمل السياسي تحت رعايته وجناحه.
ولكن، على نتايناهو ان يحذر في كيفية التعامل مع قضية بولارد، لان اي خطوة ناقصة ان في قضية الاتفاق النووي الايراني وموقف اسرائيل منه، او في الاستهتار بالقوة التي سيكتسبها هذا الجاسوس داخل اسرائيل لدى دخوله المعترك السياسي، سترتد سلباً على رئيس الوزراء الحالي، وقد يخسر ورقة حلم بها الكثير من رؤساء الوزراء الاسرائيليين قبله في الحصول عليها.
فمن سيضحك كثيرا؟ اوباما ام نتنياهو؟
(1) في العام 1987، اعترف الموظف الحكومي جوناثان بولارد بالتجسس لصالح اسرائيل (بعد اعتقاله عام 1985)، وتسريب معلومات بالغة السرية، مستغلاً وظيفته كمحلل استخباراتي للبحرية الاميركية، وحكم عليه بالتالي بالسجن مدى الحياة دون محاكمة بعد ان قبل بتسوية.